خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 20 من المحرم 1446 هـ - الموافق 26 / 7 / 2024م
الْبَيْعُ أَحْكَامٌ وَآدَابٌ
الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الذَّاكِرِينَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ الْخَاشِعِينَ الْمُخْبِتِينَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَفَرِّدِ بِالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَالْفَضْلِ وَالْإِنْعَامِ، شَرَعَ لِعِبَادِهِ الْأَحْكَامَ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْحَرَجَ وَالْآثَامَ؛ ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [الحج:78]، وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [ [الأنبياء:107]، مَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا وَدَلَّنَا عَلَيْهِ، وَمَا مِنْ شَرٍّ إِلَّا وَحَذَّرَنَا مِنْهُ، فَتَرَكَنَا عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؛ ]وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [ [البقرة:281].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ: الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَكُونَ عِبَادَاتُنَا وَمُعَامَلَاتُنَا عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ وَأَكْمَلِ حَالٍ، فَلَا نَرْتَكِبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا نَقْرَبَ حُدُودَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَنَا بِالِابْتِعَادِ عَنْهَا؛ ] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [ [البقرة:187]. وَمِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الَّتِي يَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهَا وَتَعَلُّمُهَا: أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَآدَابُهُ، فَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَبَاحَ لِعِبَادِهِ مَا يُحَقِّقُ لَهُمْ أَفْضَلَ الطُّرُقِ وَأَقْوَمَ السُّبُلِ لِلْعَيْشِ الْكَرِيمِ، وَنَظَّمَ لَهُمْ شُؤُونَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمِنْ شُؤُونِ الْعِبَادِ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْيَوْمِيَّةِ: الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَلَوْلَا الْبَيْعُ لَمَا اسْتَطَاعَ الْمَرْءُ أَنْ يَنَالَ حَاجَتَهُ إِلَّا غَلَبَةً وَغَصْبًا؛ وَلِهَذَا نَظَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَحْكَامَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَوْجَبَتْ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّعَامُلَ بِالْأَسْوَاقِ وَبِالتِّجَارَةِ: أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ؛ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الرِّبَا وَالْمُعَامَلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلَا يَأْكُلَ النَّاسُ أَمْوَالَ بَعْضِهِمْ بِالْبَاطِلِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ [النساء:29] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا : ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ [البقرة:278]، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t يَقُولُ: (لَا يَبِـعْ فِي سُوقِنَا إِلَّا مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ) [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ].
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ مِنْ مُعَامَلَةٍ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا مِنَ التَّيْسِيرِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ؛ فَعَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ مِنْ مَوَانِعِ الْبَيْعِ؛ كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ ظُلْمًا وَلَا أَكْلًا لِلْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ يُفْضِ إِلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ، وَلَمْ يَحْتَوِ عَلَى قِمَارٍ أَوْ مَيْسِرٍ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ صَحِيحًا؛ وَيَكُونُ كَسْبُ الْمَالِ حَلَالًا طَيِّبًا، وَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ جُمْلَةً مِنَ الْبُيُوعِ وَحَذَّرَتْنَا مِنْهَا، وَجَعَلَتِ التَّعَامُلَ بِهَا سَبَبًا لِلْإِثْمِ وَبُطْلَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لَا الْحَصْرِ:
الرِّبَا ؛ فَكُلُّ عَقْدٍ اشْتَمَلَ عَلَى الرِّبَا فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ قَالَ تَعَالَى: ]الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ [البقرة:275]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الرِّبَا: ]وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ [البقرة:275]، وَحَذَّرَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَذَرِ الرِّبَا؛ أَنَّهُ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ حَيْثُ قَالَ: ]فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ [البقرة:279]، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَنَاعَةِ الرِّبَا وَشِدَّةِ الْإِثْمِ فِيهِ؛ وَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرِّبَا مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، أَيِ: الْمُهْلِكَاتِ.
وَالرِّبَا -يَا عِبَادَ اللهِ- أَنْوَاعٌ وَصُوَرٌ، مِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْمُتَعَاقِدِينَ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ؛ لِذَا وَجَبَ الْعِلْمُ بِهِ وَبِأَحْكَامِهِ، حَتَّى لَا يَقَعَ الْمَرْءُ فِي الرِّبَا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَيُحَاسَبَ عَلَى ذَلِكَ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْعِلْمِ وَالسُّؤَالِ.
وَمِنَ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ: أَنْ يَبِيعَ الْمَرْءُ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ؛ فَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزْامٍ t قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَبِيعُهُ، ثُمَّ أَبِيعُهُ مِنَ السُّوقِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ]، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّلَعِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ بَيْعًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُ عَقْدِ الْبَيْعِ.
وَمِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ: بَيْعُ الْمُسْلِمِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِعَشَرَةٍ أَنَا أَبِيعُكَ مِثْلَهَا بِتِسْعَةٍ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبِـعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وَهَذَا الْبَيْعُ حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
عِبَادَ اللهِ:
قَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بَيْعَ الْغَرَرِ؛ وَالْغَرَرُ هُوَ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحُصُولِ وَالْفَوَاتِ وَخَفِيَتْ حَقِيقَتُهُ عَلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَبَيْعِ الْغَرَرِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]، وَبَيْعُ الْحَصَاةِ: أَنْ يَقُولَ: بعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأَثْوَابِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ، وَيَرْمِي الْحَصَاةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَالْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عِلْمًا يَرْفَعُ عَنْهُمَا النِّزَاعَ وَالْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي التَّعَامُلَاتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي حَذَّرَتْ مِنْهَا الشَّرِيعَةُ: الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ النَّاسِ وَحَوَائِجِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ، فَيَحْتَكِرُ التُّجَّارُ السِّلَعَ بِغَرَضِ ارْتِفَاعِ أَسْعَارِهَا مِمَّا يُوقِـعُ الضَّرَرَ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]. وَالْخَاطِئُ هُوَ الآثِمُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَتْهَا الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ؛ تَحْقِيقًا لِلْمَصْلَحَةِ وَدَفْعًا لِلْمَفْسَدَةِ؛ وَ لِخُطُورَةِ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ: التَّوَقِّي وَالْحَذَرُ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ مِنَ الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ الْحَرَامَ لِلْمَالِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سَخَطِ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَعَدَمِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ]يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [ [المؤمنون:51] وَقَالَ: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [ [البقرة:172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]، وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّحَرُّزُ مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي الْجَهْرِ وَفِي النَّجْوَى؛ ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ [الحشر:18].
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:
لَقَدْ شَرَعَ اللهُ لِعِبَادِهِ أَحْكَامَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَبَاحَ لَهُمُ التَّكَسُّبَ وَالِاسْتِثْمَارَ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَجَعَلَ لِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ آدَابًا يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا؛ وَذَلِكَ لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَانْتِشَارِ الْأَمَانَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوعِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ، فَيَنْعَمُ الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، وَيَتَآلَفُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَكُونُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآدَابِ: الصِّدْقُ فِي الْمُعَامَلَةِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ تَاجُ الْفَضَائِلِ، وَبِهِ يَرْتَقِي الصَّادِقُ مَرَاتِبَ الْجِنَانِ؛ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ» فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللهِ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ]، وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَمِنَ الْآدَابِ: السَّمَاحَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ]، وَمَعْنَى: اقْتَضَى؛ أَيْ: طَلَبَ حَقَّهُ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهُ: تَرْوِيجُ السِّلَعِ بِالْحَلِفِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [ [البقرة:224]، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ].
وَمِنَ الْآدَابِ الْمَرْعِيَّةِ فِي الْبَيْعِ: إقَالَةُ النَّادِمِ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ، فَإِذَا جَاءَكَ أَخُوكَ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَطَلَبَ فَسْخَ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَكَنْ ثَمَّةَ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، اسْتُحِبَّ لَكَ إِقَالَتُهُ وَ فَسْخُ الْبَيْعِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ»، [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ]. أَيْ: غَفَرَ زَلَّتَهُ وَخَطِيئَتَهُ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ الْأَنْوَرِ، وَالْجَبِينِ الْأَزْهَرِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْغُرَرِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَحْشَرِ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَلْهِمْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَدَوَامَ عَافِيَتِكَ، وَجَنِّبْنَا فُجَاءَةَ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعَ سَخَطِكَ، وَبَارِكِ اللَّهُمَّ لَنَا فِي أَوْقَاتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَأَوْلَادِنَا وَأَزْوَاجِنَا، وَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ، وَأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْإِيمَانِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة